الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} حزينًا جزعًا {قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} صدقًا أنه يعطيكم التوراة {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} مدّة مفارقتي إياكم {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ} يجب {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} وذلك أنَّ الله سبحانه كان قد وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثمَّ أتّمها بعشر، فلمّا مضت الثلاثون قال عدو الله السامري........قال سعيد بن جبير: كان السامري من أهل كرمان فقال لهم: إنما اصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي التي معكم، وكانت حليًا استعاروها من القبط، فهلمّوا بها واجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيه، فجمعت ودفعت إليه فصاغ منها عجلًا في ثلاثة أيام ثمَّ قذف فيه القبضة التي أخذها من أثر فرس جبرئيل، فقال قوم موسى له: {قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قرأ أهل المدينة وعاصم: بمَلكنا بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الميم، الباقون: بكسرها، ومعناها بسلطاننا وطاقتنا وقدرتنا.قال مقاتل: يعني ونحن نملك أمرنا، وقيل: باختيارنا.{ولكنا حُمِّلْنَآ} قرأ أهل الحجاز والشام وحفص: حُمّلنا بضم الحاء وتشديد الميم، الباقون: حملنا بفتح الحاء والميم مخفّفة {أَوْزَارًا} أثقالًا وأحمالًا {مِّن زِينَةِ القوم} من حلي قوم فرعون {فَقَذَفْنَاهَا} فجمعناها ودفعناها إلى السامري، فألقاها في النار لترجع أنت فترى فيه رأيك {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} ما معه من الحليّ مَعَنا كما ألقينا {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا} لا روح فيه، صاغ لهم عجلًا من ذهب مرصّع بالجواهر {لَّهُ خُوَارٌ} صوت، وذلك أنه خار خورة واحدة ثمَّ لم يعد.قال ابن عباس: أتى هارون على السامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر، فقال: اللهمَّ أعطه ما سألك على ما في يقينه فلمّا قال: اللهم إنّي أسألك أن يخور؛ فخار فسجد، وإنّما خار لدعوة هارون {فَقَالُواْ هذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ} أي ضلّ وأخطأ الطريق، وقيل: معناه فتركه ها هنا وخرج يطلبه.قال الله سبحانه {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} يعني أنّه لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلًا} أي لا يكلّمهم العجل ولا يجيبهم، وقيل: يعني لا يعود إلى الخوار والصوت {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ} يعني من قبل رجوع موسى {ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} ابتليتم بالعجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني} على ديني {وأطيعوا أَمْرِي} فلا تعبدوه {قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} لن نزال على عبادته مقيمين {حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل، فلمّا رجع موسى وسمع الصياح والجلبة، وكانوا يرقصون حول العجل، قال السبعون الذين معه: هذا صوت الفتنة، فلمّا رأى هارون أخذ شعره بيمينه ولحيته بشماله وقال له {يا هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} أخطأوا وأشركوا {أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} يعني أن تتّبع أمري ووصيتي ولا صلة، وقيل: معناه: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إيّاهم تقريعًا وزجرًا لهم عمّا أتوه؟ وقيل: معناه: هلاّ قاتلتهم إذ علمت أنّي لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم.{فَعَصَيْتَ أَمْرِي} فقال هارون {يَبْنَؤُمَّ} قال الكلبي وغيره: كان أخاه لأبيه وأُمّه ولكنّه أراد بقوله: يا بن أُمّ أن يرقّقه ويستعطفه عليه فيتركه، وقيل: كان أخاه لأُمّه دون أبيه، وقيل: لأن كون الولد من الأُمّ على التحقيق والأب من جهة الحكم {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} يعني ذؤابتي وشعر رأسي إذ هما عضوان مصونان يقصدان بالإكرام والإعظام من بين سائر الأعضاء {إِنِّي خَشِيتُ} لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضًا فتقول {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} وأوقعت الفرقة فيما بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} ولم تحفظ وصيّتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح.قال قتادة في هذه الآية: فذكر الصالحون الفرقة قبلكم، ثمّ أقبل موسى على السامرىّ فقال له {فَمَا خَطْبُكَ} أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت {ياسامري}.قال قتادة: كان السامري عظيمًا من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكنّ عدوّ الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل، فلمّا مرّت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فاغتنمها السامرىّ، فاتّخذ العجل فقال السامري مجيبًا لموسى: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تبصروا بالتاء على الخطاب، الباقون بالياء على الخبر {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} يعني فأخذت ترابًا من أثر فرس جبرئيل، وقرأ الحسن فقبصت قبصة بالصاد فيهما، والفرق بينهما أن القبض بجمع الكف والقبص بأطراف الأصابع {فَنَبَذْتُهَا} فطرحتها في العجل {وكذلك سَوَّلَتْ} زيّنت {لِي نَفْسِي قَالَ} له موسى {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة} ما دمت حيًا {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} لا تخالط أحدًا ولا يخالطك أحد، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه.قال قتادة: إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك: لا مساس، ويقال بأنَّ موسى همَّ بقتل السامري فقال الله: لا تقتله فإنه سخىّ، وفي بعض الكتب: إنّه إنْ يمسّ واحد من غيرهم أحدًا منهم حُمّ كلاهما في الوقت.{وَإِنَّ لَكَ} يا سامري {مَوْعِدًا} لعذابك {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ الحسن وقتادة وأبو نهيك وأبو عمرو بكسر اللام بمعنى لن تغيب عنه بل توافيه، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفكه الله.{وانظر إلى إلهك} بزعمك وإلى معبودك {الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ} دمت عليه {عَاكِفًا} مقيمًا تعبده.يقول العرب: ظلتُ أفعل كذا بمعنى ظللت، ومسْت بمعنى مسست، وأحسْت بمعنى أحسست. قال الشاعر:
أي أحسسن.{لَّنُحَرِّقَنَّهُ} قرأه العامة بضم النون وتشديد الراء بمعنى لنحرقنه بالنار.وقرأ الحسن بضم النون وتخفيف الراء من إلاحراق بالنّار، وتصديقه قول ابن عباس: فحرّقه بالنار ثمَّ ذرّاه في اليمّ.وقرأ أبو جعفر وابن محيص وأشهب العقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة بمعنى لنبردنّه بالمبارد، يقال: حرقه يحرقه ويحرقه إذا برّده، ومنه قيل للمبرد المحرق، ودليل هذه القراءة قول السدّي: أخذ موسى العجل فذبحه ثمَّ حرقه بالمبرد ثمَّ ذرّاه في اليّم، وفي حرف ابن مسعود: لنذبحنه ثمَّ لنحرّقنه {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} لنذرّينه {فِي اليم نَسْفًا} يقال نسف الطعام بالمنسف إذا ذرّاه فطيّر عنه قشوره وترابه.{إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ} لا العجل {وَسِعَ} ملأ {كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} فعلمه ولم يضق عليه، يقال: فلان يسع لهذا الأمر إذا أطاقه وقوي عليه {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأُمور {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن {مَّنْ أَعْرَضَ} أدبر {عَنْهُ} فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْرًا} إثمًا عظيمًا وحملًا ثقيلًا {خَالِدِينَ فِيهِ} لا يكفره شيء.{وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} قرأهُ العامة بياء مضمومة على غير تسمية الفاعل، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة لقوله: {وَنَحْشُرُ المجرمين} المشركين {يَوْمِئِذٍ زُرْقًا} والعرب تتشاءم بزرقة العيون. قال الشاعر يهجو رجلًا: وقيل: أراد عُميًا {يَتَخَافَتُونَ} يتسارُّون فيما {بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ} ما مكثتم في الدنيا، وقيل: في القبور {إِلاَّ عَشْرًا} أي عشر ليال.قال الله سبحانه {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أوفاهم عقلًا وأصوبهم رأيًا {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا} يقلعها من أماكنها ويطرحها في البحار حتى تستوي.فإن قيل: ما العلّة الجالبة للفاء التي في قوله فقل خلافًا لأخواتها في القرآن؟فالجواب أنّ تلك أسئلة تقدّمت سألوا عنها رسول الله فجاء الجواب عقيب السؤال، وهذا سؤال لم يسألوه بعد وقد علم الله سبحانه أنّهم سائلوه عنه فأجاب قبل السؤال، ومجازها: وإن سألوك عن الجبال فقل ينسفها {رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} أرضًا ملساء لا نبات فيها.{لاَّ ترى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا}.قال ابن عباس: العوج: الأودة، والأمت الروا بي والنشوز.مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع.ابن زيد: الأمت: التفاوت والتعادي.ويقول العرب: ملأت القربة ماءً لا أمت فيه أي لا استرخاء.يمان: الأمت: الشقوق في الأرض {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي} الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو إسرافيل {لاَ عِوَجَ لَهُ} أي لدعاته، وقال أكثر العلماء: هو من المقلوب أي لا حرج لهم عن دعاته، لا يزيغون عنه، بل يتّبعونه سراعًا.{وَخَشَعَتِ} وسكنت {الأصوات للرحمن} فوصف الأصوات بالخشوع والمعنى لأهلها {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا} يعني وطْء الأقدام ونقلها إلى المحشر، وأصله الصوت الخفي، يقال: همس فلان بحديثه إذا أسرّه وأخفاه، قال الراجز: يعني بالهمس صوت أخفاف الإبل.وقال مجاهد: هو تخافت الكلام وخفض الصوت.{يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} في الشفاعة {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} أي ورضي قوله.{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الكناية مردودة إلى الذين يتّبعون الداعي.{وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} لا يدركونه ولا يعلمون ما هو صانع بهم. اهـ.
|